فصل: من لطائف القشيري في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} أي فأنزلهما من رتبة الطاعة إلى درك المعصية والذنب مما غرهما وخدعهما من القسم. ودلاّ مأخوذة من دلّى رجليه في البئر كي يرى إن كان فيه ماء أم لا، أو دلَّى جبل الدلو لينزله في البئر، ومعناها: أنه يفعل الشيء مرة فمرة، و{بغرور} أي بإغراء لكي يوقعهما في المخالفة، فأظهر لهما النصح وأبطن لهما الغش.
وهنا وقفة تدل على الاصطراع بين الحق والباطل في النفس، {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة} هذا يدل على أنهما بمجرد المذاق تذكرا أن النزغ من إبليس جعلهما يذهبان إلى الشجرة. وأن ما أخذاه فقط كان مجرد المذاق، فتنبه كلاهما إلى جسامة الأمر. {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} [الأعراف: 22]
والخصف أي تأتي بشيء وتلزقه على شيء لتداري شيئًا. وقديمًا حينما كان يبلى نعل الحذاء، ويظهر به خرق فالإِسكافي يضع عليه رقعة من الجلد تكون أوسع من الخرق حتى تتمكن منه.
وهكذا فعل آدم وحواء؛ أخذا من ورق الجنة ووضعا ورقة على ورقة ليداريا السوءة. وقوله الحق: {وَطَفِقَا} يعني وجعلا من ورق الشجر غطاء للسوءات.
وهنا يقول الحق: {... وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 22]
لقد كان التكليف هنا في أمر واحد، والإِباحة في أمور متعددة، وسبحانه لم يكلفهما إلا بأمر واحد هو عدم الاقتراب من الشجرة، والمباح كان كثيرًا؛ لذلك لم يكن من اللائق أن يتولى عن التكليف. ولم يكن هذا التكليف بالواسطة ولكن كان بالمباشرة، ولذلك سينفعنا هذا الموقف في الفهم في لقطة للقصة في سورة غير هذه وهو قوله الحق: {... وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121]
ولم يأت الحق هنا بسيرة المعصية، وقال لهما: {... أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 22]
وسبحانه لا يجرم إلا بنص، وسبق أن قال سبحانه: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} وأوضح: أن هناك عنصرًا إغوائيًا هو إبليس وعداوته مسبقة في أنه امتنع عن السجود، وقد طرده الحق لهذا السبب. إذن إنْ آخذهما وعاقبهما الله بهذا الذنب فهو العادل، وهما اللذان ظلما أنفسهما. وكان لابد أن يكون الجواب: نعم يا رب نهيتنا، وقلت لنا ذلك. وهذا إيراد للحكم بأقوى الأدلة عليه؛ لأن الحكم قد يأتي بالإِخبار، وقد يأتي بالاستفهام بالإِيجاب، ويكون أقوى لو جاء بالاستفهام بالنفي. {... إِنَّ الشيطآن لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ} [الأعراف: 22]
ونحن نعلم أن العدو هو الخصم الذي يريد إلحاق الضرر والإيذاء بك، و{مبين} أي محيط، وهذا دليل يظهر عداوة الشيطان وإحاطتها؛ لأنه قد سبق أن أوضح أنه سيأتي من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. أو بيَّن العداوة وشديد الخصومة.
ويأتي الإقرار بالذنب من آدم وحواء: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا...}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
{فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ}
الباء للحال أي: مصاحبين للغرور، أو مصاحبًا للغرور فهي حال: إمَّا من الفاعل، أو من المفعول ويجوز أن تكون الباءُ سببيَّةً أي: دَلاَّهُمَا بسببِ أنْ غَرَّهُمَا.
والغُرُورُ: مصدرٌ حُذف فَاعِلُهُ ومفعوله، والتقديرُ: بِغُروره إيَّاهُمَا وقوله: {فَدَلاَّهَمَا} يحتملُ أن يكون من التَدْلِيَةِ من معنى دَلاَ دَلْوَه في البِئْرِ، والمعنى أطمعهما.
قال أبُو منصور الزْهَرِيُّ: لهذه الكلمة أصلان:
أحدهما: أن يكون أصْلُهُ أن الرَّجُلَ العَطْشَانَ يُدْلِي رِجْلَهُ في البئر ليأخذ الماء، فلا يجدُ فيها ماء فوضعت التَّدْلية موضع الطَّمعِ فيما لا فائدة فيه، يقالُ: دَلاَّهُ: إذا أطْمَعَهُ.
قال أبُو جنْدَبٍ: [الوافر]
أحُصُّ فَلاَ أُجِيرُ ومَنْ أُجِرْهُ ** فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بالغُرُورِ

وأن تكون من الدَّالِّ، والدَّالَّةَ، وهي الجُرْأة أي: فَجَرَّأهما قال: [الوافر]
أظُنُّ الحِلْمُ دَلَّ عَلَيَّ قَوْمِي ** وقدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الحَلِيمُ

وعلى الثاني [يكون] الأصل دَلَّلَهُمَا، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال فأبدلت الثَّالث حرف لين كقولهم: تَظنَّيْتُ في تظَّننْت، وقَصَّيْتُ أظْفَاري في قَصَصْتُ.
وقال: [الرجز]
تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ

قوله: {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة}
الذَّوْقُ وجود الطَّعْمِ بالفَم، ويعبر به عن الأكل وقيل: الذَّوْقُ مَسُّ الشَّيْءِ باللِّسانِ، أو بالفَمِ يُقَالُ فيه: ذاق يَذُوقُ ذُوْقًا مثل صَامَ، يَصُومُ صَوْمًا، ونَامَ يَنَامُ نَوْمًا.
وهذه الآية تدل على أنهما تناولا البُرَّ قَصْدًا إلى معرفة طعمه، ولولا أنَّهُ تعالى ذكر في آية أخرى أنَّهُمَا أكلا منها لكان ما في هذه الآية لا يدُلُّ على الأكل؛ لأنَّ الذَّائِقَ قد يكونُ ذَائِقًا من دون أكل.
قوله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} أي ظهرت عَوْرَتُهُمَا وزال اللِّبَاسُ عنهما.
قوله: {وطَفِقَا} طَفِقَ من أفعال الشُّرُوعِ كأخَذَ وجعل، وأنْشَأ وعلَّق وهبَّ وانبرى، فهذه تَدُلُّ على التَّلَبُّسِ بأوَّلِ الفِعْلِ، وحكمها حكم أفْعَالِ المُقاربَةِ من كون خبرها لا يكون غلاَّ مُضَارِعًا، ولا يجوز أن يقترن بأن لمنافاتها لها؛ لأنها للشُّروع وهو حال وأنْ للاستقبال، وقد يقعُ الخبرُ جملة اسمية كقوله: [الوافر]
وَقَدْ جَعَلَتْ قَلُوصُ بَنِي سُهَيْلٍ ** مِنَ الأكْوَارِ مَرْتَعُهَا قَرِيبُ

وشرطيَّة كإذا كقوله عمر: فَجَعلَ الرَّجُلُ إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا.
ويقال طَفِقَ بفتح الفاء وكسرها، وطَبِقَ بالباء الموحدة أيضًا، والألف اسمها، و{يَخْصَفَان} خَبَرُهَا.
وقرأ أبُوا السمالِ: {وطَفَقَا} بفتح الفاء.
وقرأ الزُّهْرِيُّ: {يُخْصِفَانِ} بضم حرف المضارعة من أخْصَفَ وهي تحتمل وجهين:
أحدهما: ان يكون أفْعَلَ بمعنى فَعَلَ.
والثاني: أن تكون الهَمْزَةُ للتَّعْديَة، والمَفْعُولُ على هذا مَحْذُوفُ، أي: يُخْصِفَانِ أنفسهما، أي: يَجْعلانِ أنفسَهُمَا خاصِفَيْنِ.
وقرأ الحسنُ، والأعرجُ ومُجاهِدٌ وابْنُ وثَّابٍ {يَخِصِّفانِ} بفتح الياء وكسر الخاء، والصَّاد مشدودةٌ، والأصْلُ يَخْصِفَانِ، فأدغمت التَّاءُ في الصَّادِ، ثم اتْبعت الخَاءُ للصَّادِ في حركتها، وسيأتي نظيرُ هذه القراءة في يُونس ويس نحو {يهدي} [يونس: 35] و{يَخِصِّمُونَ} [يس: 49].
وروى مَحْبُوبٌ عن الحسنِ كذلك إلاَّ أنَّهُ فتح الخاء، فلم يُتْبِعْها للصَّادِ وهي قراءةُ يعقوب وابْنِ بُرَيْدَةَ.
وقرأ عبد الله: {يُخُصِّفان} بضمِّ الياءِ والخَاءِ وكسر الصَّادِ مشدودة وهي من خَصِّفَ بالتَّشديد، إلاَّ أنَّهُ أتبع الخاء للياء قبلها في الحركةِ، وهي قراءة عَسِرةُ النُّطْقِ.
ويَدُلُّ عل أنَّ أصْلها مِنْ خَصَّفَ بالتَّشديدِ قِراءةُ بعضهم {يُخَصِّفان} كذلك، إلاَّ أنَّهُ بفتح الخاء على أصلها.
والخصفُ: الخَرْزُ في النِّعالِ، وهو وَع طريقة على أخرى وخرْزهما، والمِخْصَفُ: ما يُخْصَفُ به، وهو الإشفَى.
قال رُؤبَةُ: [الكامل]
أنْفِهَا كالمِخْصَفِ

والخَصْفَةُ أيضًا: الحُلَّةُ للتَّمْر، والخَصَفُ: الثِّيابُ الغَلِيظَةُ، وخَصَفْتُ الخَصْفَةَ: نَسَجْتُهَا، والأخْصَف: الخَصِيفُ طعام يبرق، وأصْلُهُ أن يُوضَعَ لَبَنٌ ونحوه في الخَصْفَةِ فَيتلوَّنُ بلونها.
وقال العبَّاسُ يمدحُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: [المنسرح]
-... طِبْتَ فِي الظِّلالِ وَفِي ** مُسْتَودَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ

يشير إلى الجَّنَّةِ أي حَيْثُ يخرز، ويطابق بعضها فوق بعض.
قوله: {عليهما}
قال أبُو حيَّان: الأَوْلى أن يعود الضَّمِيرُ في {عليهما} على عَوْرَتَيْهِمَا، كَأنَّهُ قيل: يَخْصِفَانِ على سَوءأتيهما، وعاد بضمير الاثنين؛ لأنَّ الجمع يُرَادُ بن اثنان.
ولا يَجُوزُ أن يعود الضَّميرُ على آدَمَ وحوَّاءَ؛ لأنَّهُ تَقرَّرَ في علم العربيَّةِ أنَّهُ لا يتعدَّى من فعل الظَّاهِر والمُضْمَرِ المتَّصل إلى الضمير المتصل إلى الضمير المتصل المنصوب لفظًا أو مَحَلًا في غير باب ظَنّ، وقَعَدَ وعَدمَ، ووَجَد لا يجُوزُ زيد ضربه، ولا ضَرَبَهُ زيد، ولا زَيْدٌ مَرَّ به، ولا مَرَّ به زيدٌ، فلو جعلنا الضَّمِيرَ في {عَلَيْهِمَا} عائدًا على آدم وحوَّاءَ لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي يَخْصِفُ إلى الضَّميرِ المنصوب مَحَلًا، وقد رفع الضَّمير المتَّصِل، وهو الألف في {يَخْصِفَانِ}، فإن أخِذَ ذلك على حَذْفِ مُضافٍ مراد؛ جَازَ ذلك، تقديره: يَخْصِفانِ على بَدَنَيْهِمَا.
قال شهابُ الدِّين: ومثل ذلك فيما ذكر {وهزى إِلَيْكِ} [مريم: 25].
{واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32].
وقول الشاعر: [المتقارب]
هَوِّنُ عليْكَ فإنَّ الأمُورَ ** بِكَفِّ الإلهِ مَقَادِيرُهَا

وقوله: [الطويل]
دَعْ عَنْكَ نَهْبًا صِيحَ في حَجَرَاتِهِ ** ولكِنَ حَدِيثًا ما حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ

قوله: {مِنْ وَرَقِ} يحتملُ وَجْهَيْنِ:
أن تكون {مِن} لابتداء الغايةِ وأن تكون للتَّبعيضِ.
و{نَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} لم يصرِّحْ هنا باسم المنادى للعلم به.
وقوله: {أَلَمْ أنْهَكُمَا} يجوزُ أن تكون هذه الجُمْلَةُ التقديريَّةُ مفسِّدة للنداء لا محلّ لها ويحتمل أن يكُونَ ثَمَّ قول مَحْذُوفٌ، هي مَعْمُولَةٌ له أي: فقال: لم أنْهَكُمَا.
وقال بعضَهُم: هذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بقولٍ مُقدَّرٍ ذلك القَوْلُ حال تقديره: وناداهما قَائِلًا ذلك.
و{لَكُمَا} متعلِّقٌ بـ {عَدُوّ} لما فيه من معنى الفِعْل، ويجوز أن تكون متعلِّقة بمَحْذُوفٍ على أنها حالٌ من {عَدٌوّ}؛ لأنَّهَا تأخّرَتْ لجاز أن تكون وصفًا. اهـ. باختصار.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآيتين:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّى لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ}.
حُسْنُ ظنِّ آدم عليه السلام حَملَه على سكون قلبه إلى يمين العدو لأنه لم يخطر بباله أن يكذب في يمينه بالله، ثم لمَّا بان له أنه دلاَّهما بغرورٍ تاب إلى الله بصدق الندم، واعترف بأنه أساء وأجرم، فَعَلِمَ سبحانه صِدْقَه فيما ندم، فتداركه بجميل العفو والكرم.
قوله جلّ ذكره: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوءاتُهُمَا}.